فصل: ذكر تحليف الأفضل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)



.ذكر عود السلطان إلى دمشق المحروسة:

وكان عوده إليها بعد الفراغ من تصفح أحوال القلاع الساحلية بأسرها والتقدم بسد خللها وإصلاح أمور أجنادها وشحنها بالأجناد والرجال ودخل دمشق بكرة الأربعاء السادس والعشرين من شوال وفيها أولاد الملك الأفضل والملك الظاهر والملك الظافر وأولاده الصغار وكان يحب البلد ويؤثر الإقامة فيه على سائر البلاد وجلس للناس في بكرة الخميس السابع والعشرين منه وحضر الناس عنده وبلوا شوقهم من رؤيته وأنشده الشعراء وعم ذلك المجلس الخاص والعام وأقام ينشر جناح عدله. ويهطل سحاب إنعامه وفضله ويكشف مظالم الرعايا في الأوقات المعتادة حتى كان يوم الاثنين مستهل ذي القعدة اتخذ الملك الأفضل دعوة للملك الظاهر فإنه لما وصل إلى دمشق بلغه حركة السلطان إليها فأقام حتى يتملى بالنظر إليه ثانياً وكأن نفسه الشريفة كانت قد أحست بدنو أجل السلطان فودعه في تلك الليلة مراراً متعددة وهو يعود إليه. ولما اتخذ الملك الأفضل له دعوة أظهر فيها من بديع التجمل وغريهه ما يليق بهمته وكأنه أراد مجازاته عما خدمه به حين وصوله إلى حلب وحضرها أرباب الدنيا وأبناء الآخرة وسأل السلطان الحضور فحضر جبراً لقلبه.

.ذكر قدوم الملك العادل أخيه:

ولما تصفح الملك العادل أخبار الكرك وأمر بإصلاح ما قصد إصلاحه منه عاد طالباً البلاد الفراتية فوصل أرض دمشق يوم الأربعاء سابع عشر ذي القعدة وكان السلطان قد خرج إلى لقائه وأقام يتصيد حوالي عباب إلى الكسوة حتى لقيه وسارا جميعاً وكان دخولهما دمشق آخر نهار الأحد الحادي والعشرين وأقام السلطان بدمشق يتصيد هو وأخوه وأولاده ويتفرجون في أرض الشام وموطن الظباء وكأنه وجد راحة مما كان فيه من ملازمة التعب وسهر الليل ونصب النهار وما كان ذلك إلا كالوداع لأولاده ومرابع تنزهه وهو لا يشعر ونسي عزمه المصري وعرضت له أمور أخرى وعزمات غير ذلك ووصلني كتابه إلى القدس يستدعيني إلى خدمته وكان شتاءً شديداً ووحل عظيم فخرجت من القدس الشريف في يوم الجمعة الثالث والعشرين من المحرم سنة تسع وثمانين وكان الوصول إلى دمشق يوم الثلاثاء ثاني عشر صفر سنة تسع وكان وصل أوائل الحج على طريق دمشق واتفق حضوري والملك الأفضل حاضر في الإيوان الشمالي وفي خدمته خلق من الأمراء وأرباب المناصب ينتظرون جلوس السلطان لخدمته فلما شعر بحضوري استحضرني وهو وحده قبل أن يدخل إليه أحد فدخلت عليه فقام ولقيني لقاءً ما رأيت أشد من بشره بي فيه ولقد ضمني إليه ودمعت عينه.

.ذكر لقائه للحجاج:

ولما كان يوم الأربعاء ثالث عشر صفر طلبني فحضرت عنده فسألني عمن في الإيوان فأخبرته أن الملك الأفضل جالس في الخدمة والأمراء والناس في خدمته فاعتذر إليهم على لسان جمال الدولة إقبال. ولما كانت بكرة الخميس استحضرني فحضرت عنده في صفة البستان وعنده أولاده الصغار فسأل عن الحاضرين فقيل له رسل الإفرنج وجماعة الأمراء والأكابر فاستحضر رسل الإفرنج إلى ذلك المكان فحضروا وكان له ولد صغير وكان كثيراً ما يميل إليه يسمى الأمير وكان حاضراً وهو يداعبه فلما وقع بصره على الإفرنج ورأى أشكالهم وحلق لحاهم وقص شعورهم وما عليهم من الثياب غير المألوفة خاف منهم وبكى فاعتذر إليهم وصرفهم بعد أن حضروا ولم يسمع كلامهم وقال إن لي اليوم شغلاً وكان عادته المباسطة ثم قال أحضروا لنا ما تيسر فأحضروا أرزاً بلبن وما شابه ذلك من الأطعمة الخفيفة فأكل وكنت أظن أنه ما عنده شهوة وكان في هذه الأيام يعتذر إلى الناس لثقل الحركة عليه وكان بدنه ملتاثاً ممتلئاً وعنده كسل فلما فرغنا من الطعام قال ما الذي عندك من خبر الحاج فقلت اجتمعت بجماعة منهم في الطريق ولولا كثرة الوحل لدخلوا اليوم ولكنهم غداً يدخلون. فقال نخرج إن شاء الله إلى لقائهم وتقدم بتنظيف طرقاتهم من المياه فإنها سنة كثيرة الأنداء وقد سالت المياه في الطرق والأنهار. وانفصلت من خدمته ولم أجد عنده من النشاط ما كنت أعرفه ثم ركب في بكرة الجمعة وتأخرت عنه قليلاً ثم لقيته وقد لقي الحاج وكان فيهم سابق الدين وقرالاً الياروقي وكان كثير الاحترام للمشايخ فلقيهم ثم لحقه الملك الأفضل وأخذ يحدثني فنظرت إلى السلطان فلم أجد عليه كزاغنده وما كان له عادة بركب بدونه وكان يوماً عظيماً قد اجتمع فيه للقاء السلطان والتفرج عليه معظم من في البلد فلم أجد الصبر دون أن سرت إلى جانبه وحدثته في إهمال هذا فكأنه استيقظ فطلب الكزاغند فلم يوجد الزرد كماش فوجدت لذلك أمراً عظيماً وقلت في نفسي السلطان يطلب ما لا بد منه في عادته ولا يجده ووقع في قلبي تطير بذلك فقلت له أليس ثم طريق نسلكه ليس فيه خلق كثير فقال بلى ثم سار بين البساتين فطلب جهة المنيع وسرنا في خدمته وقلبي يرعد لما قد وقع فيه من الخوف عليه فسار حتى أتى القلعة فعبرا على الجسر إلى القلعة وهو طريقه المعتاد وكانت آخر ركوبه.

.مرضه رحمة الله عليه:

ولما كانت ليلة السبت وجد كسلاً عظيماً فما انتصف الليل حتى غشيته حمى صفراوية كانت في باطنه أكثر من ظاهره وأصبح في يوم السبت سادس عشر صفر سنة تسع وثمانين متكسلاً عليه أثر الحمى ولم يظهر ذلك للناس لكن حضرت أنا والقاضي الفاضل ودخل ولده الملك الأفضل وطال جلوسنا عنده وأخذ يشكو من قلقه في الليل وطال به الحديث إلى قريب الظهر ثم انصرفنا والقلوب عنده فتقدم إلينا بالحضور على الطعام في خدمة الملك الأفضل ولم يكن القاضي عادته ذلك فانصرف ودخلت أنا إلى الإيوان وقد مد الطعام والملك الأفضل قد جلس في موضعه فانصرفت وما كان لي قوة على الجلوس استيحاشاً وبكى جماعة تفاؤلاً بجلوس ولده في موضعه، ثم أخذ المرض في تزايد من حينئذ ونحن نلازم التردد طرفي النهار وندخل إليه أنا والقاضي الفاضل في النهار مراراً ويعطي الطريق في بعض الأيام التي يجد فيها خفة وكان مرضه في رأسه وكان من أمارات انتهاء العمر إذ كان قد ألف مزاجه سفراً وحضراً ورأى الأطباء قصده فقصدوه في الرابع فاشتد مرضه وقلّت رطوبات بدنه وكان يغلب عليه اليبس غلبة عظيمة ولم يزل المرض يتزايد حتى انتهى إلى غاية الضعف. ولقد جلسنا في سادس مرضه وأسندنا ظهره إلى مخدة وأحضر ماءً فاتراً ليشرب عقيب شرب دواء لتليين الطبيعة فشربه فوجده شديد الحرارة فشكا من شدة حرارته وعرض عليه ماء ثان فشكا من برده ولم يغضب ولم يصخب ولم يقل سوى هذه الكلمات: سبحان الله ألا يمكن أحداً تعديل الماء. فخرجت أنا والقاضي الفاضل من عنده وقد اشتد بنا البكاء والقاضي الفاضل يقول لي: أبصر هذه الأخلاق التي قد أشرف المسلمون على مفارقتها، والله لو أن هذا بعض الناس لضرب بالقدح رأس من أحضره. واشتد مرضه في السادس والسابع والثامن ولم يزل يتزايد ويغيب ذهنه.
ولما كان التاسع حدثت عليه غشية وامتنع من تناول المشروب فاشتد الخوف في البلد وخاف الناس ونقلوا الأقمشة من الأسواق وغشي الناس من الكآبة والحزن ما لا يمكن حكايته. ولقد كنت أنا والقاضي الفاضل نقعد في كل ليلة إلى أن يمضي من الليل ثلثه أو قريب منه ثم نحضر في باب الدار فإن وجدنا طريقاً دخلنا وشاهدناه وانصرفنا وإلا عرفونا أحواله من وكنا نجد الناس يترقبون خروجنا إلى أن يلاقونا حتى يعرفوا أحواله من صفحات وجوهنا.
ولما كان العاشر من مرضه حقن دفعتين وحصل من الحقن راحة وحصل بعض خفة وتناول من ماء الشعير مقداراً صالحاً وفرح الناس فرحاً شديداً فأقمنا على العادة إلى أن مضى من الليل هزيع ثم أتينا إلى الدار فوجدنا جمال الدولة إقبالاً فالتمسنا منه تعريف الحال المستجد فدخل وأنفذ إلينا مع الملك المعظم تورانشاه جبره الله تعالى أن العرق قد أخذ في ساقيه فشكرنا الله تعالى على ذلك والتمسنا منه أن يمس بقية قدمه ويخبرنا بحاله في العرق فتفقده ثم خرج إلينا وذكر أن العرق سابغ وانصرفنا طيبة قلوبنا ثم أصبحنا في الحادي عشر من مرضه وهو السادس والعشرين من صفر فحضرنا بالباب وسألنا عن الأحوال فاخبرنا بأن العرق أفرط حتى نفذ في الفراش ثم في الحصر وتأثرت به الأرض وأن اليبس قد تزايد تزيداً عظيماً وحارت في القوة الأطباء.

.ذكر تحليف الأفضل:

ولما رأى الملك الأفضل ما حل بوالده وتحقق الناس من موته تسرع في تحنف الناس في دار رضوان المعرفة بسكناه واستحضر القضاة وعمل له نسخة يمين مختصرة محصلة للمقاصد تتضمن الحلف للسلطان مدة حياته وله بعد وفاته واعتذر إلى الناس بأن المرض قد اشتد وما يعلم ما يكون، وما يفعل هذا إلا احتياطاً على جاري عادة الملوك فأول من استحضر للحلف سعد الدين أخو بدر الدين مودود الشحنة فبادر إلى اليمن من غير شرط ثم حضر ناصر الدين صاحب صهيون وذاد أن الحصن الذي في يده له وسابق الدين صاحب شيزر فحلف ولم يذكر الطلاق واعتذر بأنه ما حلف به. ثم حضر خشتر بن حسين الهكاوي وحلف. وحضر أنوشروان الزرزاري وحلف واشترط أن يكون له خبز يرضيه. وحضر علكان وملكان وحلفا ثم مد الخوان وحضر الجماعة وأكلوا.
ولما كان العصر أعيد المجلس للتحلف وحضر ميمون القصري رحمه الله وشمس الدين الكبير وقالا نحلف بشرط أن لا نسل في وجه أحد من أخوتك سيفاً لكن رأسي دون بلادك. هذا قول ميمون القصري. وأما سنقر فإنه امتنع ساعة ثم قال: كنت خلفتني على النطرون وأنا عليها وحضر سامه وقال ليس لي خبز فقل لي على أي شيء أحلف. فرجع وحلف وعلق يمينه بشرط أن يعطى خبزاً يرضيه. وحضر سنقر المشطوب وحلف واشترط أن يرضى. وحضر أيبك الأفطس رحمه الله واشترط رضاه. وحضر حسام الدين بشارة وحلف وكان مقدماً على هؤلاء ولم يحضر أحد من الأمراء المصريين ولم يتعرض لهم بل حلف هؤلاء للتقرير. ونسخة اليمين المحلوف بها مضمونها أني من وقتي هذا صفيت نيتي. وأخلصت طويتي. للملك الناصر مدة حياته وأني لا أزال باذلاً جهدي في الذب عن دولته بنفسي ومالي وسيفي ورجالي ممتثلاً أمره واقفاً عند مراضيه. ثم من بعده لولده الأفضل علي ووريثه. ووالله إنني في طاعته وأذب عن دولته وبلاده بنفسي ومالي وسيفي ورجالي وأمتثل أمره ونهيه وباطني وظاهري في ذلك سواء والله على ما أقول وكيل.